كل شيء سيكون بخير ، غدًا. | قصة قصيرة

Dead Head
Artwork by Janelle Rainer, courtesy of the Grief Diaries

تقترب من طاولة الطعام الفاخر شابة بمقتبل العمر سريعة الحركة وتظهر عليها الخفة تلتقط من الحلوى قطعة صغيرة وتضعها في فمها مُسرعة ثم تلتفت لمجموعة من النساء يتحدثن قرب طاولة الطعام لا تعرفهن شخصيا لكنها تتحدث إلى الوجود بدون تخصيص: لو رأتني امي أكل حلوى ليست من صنعها ستشعر بغيرة شديدة.

همهمت النسوة: رحمها الله.

توقفت الشابة والحلوى لا تزال عالقة في فمها كأن أحدهم قد جمد الصورة وعلى ملامحها تشكلت الصدمة، كادت بعيناها أن تفترسهن قالت وهي تجاهد لبلع ذلك الحجر في فمها: لقد أخطأتموني حتما مع شخص آخر.

علقت احداهن: أليست أمكِ التي توفيت قبل سنة عندما سقطت سيارتها من أعلى الجسر؟ لقد كانت حادثة مؤسفة حقًا، نحن آسفات.

لم تكد تتنهي من نطق آخر حرف من كلامها حتى أشتعلت الفتاة غضبًا تنفثُ كلمات كثيرة لم يفهم منها غير القليل، تتخبط بينما الدمع يتناثر مع حركاتها الإنفعالية في كل إتجاه، جاء شابٌ مسرعا يحاول تهدئتها متسائلًا في غضب: من أخبرها هذه المرة؟ من؟

استطاع إلتقاطها أخيرًا لجعلها تقف دون ثبات، تتمايل ترنحًا من فعل النار في جسدها ويغشى وجهها الدمع بلا توقف، لكن ثباته كان كافي لتسير معه إلى خارج الحفل.

علت وجوه النسوة دهشة مريرة: أيعقل أنها لا تعلم بوفاة امها؟

لا يعتبر جلوسًا هذا الذي تفعله لكنهُ يشبهه، هناك صوت يحاول الوصول إليها لكن وعيها لا يمكنه الإستيعاب، يتخبط عقلها في كل إتجاه: ما الذي عنته حينما قالت حادث؟ أمي أنا؟ لقد أخبروني أنها مسافرة، ما الذي تقوله هذه المرأة الجاهلة؟

يصل بعض الحديث من هذا الصوت الذي لا يتوقف في محاولة إختراق سمعها، إنهُ أخيها نعم هذا صوته، أنا أكيدة من أنه سينفي كلام تلك الجاهلة، لا ما الذي يقوله؟

تلتقط أذنها بعض الكلمات منه: سيزول الألم صدقيني، كل شيء سيعود بخير كما كان، لم يجدر بي إحضاركِ لهذه المناسبة.

يا لغبائي، لم أعتقد أن الأمر سيطرأ لقد رغبت في أن تستمتعي بهذه االيلة فقط.

تبدو كتمثال نُحت على يد ماهرة في فعل هذا، لم يكن الجمود الذي يستوطن وجهها هذه اللحظة ليُصور بأحسن من هذا، ملامحها مبعثرة تشعر بأنها أحد الألغاز التي عليك ترتيب قطعها لتظهر لك الصورة الأخيرة، عيناها ميتتان وجاحظتان بشكلٍ مُرعب وكأنها فقدت في دقائق كل شيء، فمها مرتبك لا يعلم أيتقوس ضحكًا أم بكاءً؟، وهذا الشحوب الذي يشبه ضباب ليلة باردة يتسلل لوجهها ليمحي أي أثر للدم من خلفه: ما الذي تقوله؟ أنا لا أفهم!

يبتلع الهواء محاولًا تجاوز هذا الألم، بعضُ الأشياء مهما تكررت تبقى سياط أثرها ذاتها لا تتغير: ماقالته النسوة صحيح أمنا فارقت الحياة قبل سنة وشكل الامر صدمة كبيرة لك ودماغك يعامل الصدمة بتجاهلها ونسيانها وكل مرة يأتي ذكرها تصابين بصدمة كأنك نسيتي تماما الامر كأول مرة ونقيم لك عزاء خاص وبغرابة كل مرة تنسين وتعودين لحياتك بشكل طبيعي، لذلك قررنا التوقف عن ذكر حادثة موتها أمامك بل أصبحنا نتحدث عنها بشكل طبيعي وتحسنتِ كثيرا، لم نستطع أن نراك تمرين بكل هذا الألم كل مرة ، وحاولنا تجنيبكِ الشعور بنوبات الفقد والألم بعدم ذكرها ونجح الأمر واستطعنا ان نباعد بينها، أنا آسف صغيرتي، لكنكِ حين ستستيقظين غدا سيعود عقلكِ إلى لعبة تجاهله وستنسين كل هذا.

ينكسر وجهها كصحن زجاجي ليتشظى إلى ألف قطعة، عيناها تلمعان وكأنهما قارب يحاول النجاة في وسط عاصفة تُمعن في الرغبة لإغراقه، فمها الذي أحتار طويلًا أخذ يصغر ويصغر حتى لم يعد له مكان في وجهها سوى نقطة صغيرة يظهر منها الصوت: ما الذي تقوله؟ لقد ماتت وأنت تخبرني بكل هذه الأشياء الغبية التي يفعلها عقلي الغبي، كم مرة علي فقدها ليفهم؟ كم مرة علي الشعور بهذا؟ أأعيش عمري كله في فقاعة لماذا؟ ليحميني عقلي؟ من ماذا؟ أمي ماتت وأنا أرفلُ ضاحكة وأتحدث عنها وكأنها لم تمت، يا إلهي ألم في صدري بل نار، كم من مرة أشعر بكل هذا؟ كم مرة علي أن أفقدها لأفهم ؟ اخبرني! كم مرة ليبدأ عقلي في الاستيعاب؟ أشعرُ بالرغبة الشديدة في نزع قلبي هذه اللحظة لعل هذه النار تنطفئ، لا أستطيع التحمل، كيف أنسى كارثة كهذه؟ كيف أنسى أنها ماتت؟

يحاول إحتضانها بينما تقاومه وتتشبث به في ذات الوقت، يتحشرج صوته وهو يقول: لا تقلقي، كل شيء سيكون بخير غدًا.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s